مما خُصَّ به نبينا الكريم ورسولنا العظيم على سائر الأنبياء والمرسلين أن معجزته الكبرى وهي القرآن الكريم باقية خالدة ما بقيت الدنيا، لتكفل الله عز وجل بحفظها، لحاجة البشرية إليها، هذا بجانب معجزاته الخبرية الكثيرة التي تدل في كل وقت وحين على صدق رسالته وحقيقة نبوته، وتزيد في صدق الصادقين، وتكشف زيف الشاكين فيه.
لم يتضح لي مغزى تركيز الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته العظيمة الفريدة في حجة الوداع على تعظيم حرمة المسلم وماله وعرضه على إخوانه المسلمين من أول وهلة، وتحذيره من قتل المسلم لأخيه المسلم وعن القتال في الفتنة وتحت الرايات العمية، إلا بعد الاطلاع على المآسي العظيمة والكوارث الجسيمة التي لحقت بالإسلام والمسلمين في الماضي، وإلا بعد شهود التحارب والتدابر الذي دار في هذا العصر في بعض ديار الإسلام، في أفغانستان، والصومال، وفي ثالثة الأثافي فتنة دارفور التي نكتوي بنارها هذه الأيام، حيث يقاتل المسلم أخاه المسلم، وينال من ماله وعرضه، ويحاول استئصاله والقضاء عليه ما وجد إلى ذلك سبيلاً، مستعيناً في ذلك بالكفار والمفسدين من أعداء الملة والدين، غير ملتفت ولا مستمع لما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وغير مكترث لمغبة ونتائج هذا التحارب والتدابر، نحو:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".1
2. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".2
لقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الكفر على هذا الفعل لشناعته وقبحه، ومبالغة في التحذير منه، لينزجر السامع عن الإقدام عليه.
3. وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس3 فقال: "أتدرون أيُّ يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: أي بلد هذا؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قلنا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهدُ الغائبَ، فإنه ربَّ مبلغ يبلغه من هو أوعى له، فكان كذلك. قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".4
4. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار"، قيل: فهذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه".5
5. وقال عبد الله بن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".6
عندما وقعت الفتنة في عهد الصحابة رضي الله عنهم بين علي وعائشة، وطلحة، والزبير، ومن معهم من ناحية، وبين علي ومعاوية من ناحية أخرى، لم يزد عدد الذين شاركوا فيها على الأربعين من الصحابة، من جملة عشرة آلاف، وحتى أولئك الأربعين لم يبادر أحد منهم بالقتال، ولكن دعاة الفتنة ومؤججي الحرب بين هذه الطوائف هم الذين أشعلوا نار القتال وتولوا كبرها، وكان المشاركون من الصحابة رضوان الله عليهم متأولين، ولم يكن علي ولا غيره منشرحاً لقتال أهل الجمل وصفين كانشراحه لقتال أهل الأهواء في النهروان، بل قال مبشراً قاتل الزبير: "بشِّر قاتل ابن صفية بالنار".
وكان الصحابة رضوان الله عليهم ساعة القتال وبعده موالين لإخوانهم المسلمين، فكان يصلي بعضهم على قتلى بعض، ويترحَّمون عليهم، وقد استقبل علي رضي الله عنه عائشة بعد الجمل أجمل استقبال، وأكرمها أيما إكرام، وأخرج الحسن والحسين مشيعين لها من الكوفة، وأخرجها في عدد من النساء إلى المدينة.
لقد حذر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتن، ونهى عنه أشد النهي، ونهى عن ذلك أصحابه والسلف الصالح، ومما جاء في ذلك ما يأتي:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ ومعاذاً فليعذ به".7
2. وعن أبي بكرة رضي الله عنه عند مسلم: "فإذا نزلت8 فمن كان له إبل فليحلق بإبله – وذكر الغنم والأرض؛ قال رجل: يا رسول الله، أرأيتَ من لم يكن له؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينجو إن استطاع".
3. وعن ابن مسعود رضي الله عنه في الفتنة: "قلتُ: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركتُ ذلك؟ قال: كفَّ يدك ولسانك، وادخل دارك؛ قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن دخل رجل عليَّ بيتي؟ قال: فادخل مسجدك – وقبض بيمينه على الكوع – وقل: ربِّي الله، حتى تموت على ذلك".9
4. وعن جندب رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني عند نزول الفتنة: "ادخلوا بيوتكم، وأخملوا ذكركم؛ قال: أرأيتَ إن دُخِل على أحدنا بيته؟ قال: ليمسك بيده، وليكن عبد الله المقتول لا القاتل".10
5. وعن خرشة بن الحُرِّ يرفعه: "فمن أتت عليه فليمش بسيفه إلى صفاة11 فليضربه بها حتى ينكسر، ثم ليضطجع لها حتى تنجلي".12
6. وعن أبي بكرة عند مسلم: "قال رجل: يا رسول الله، إن أكرهتُ حتى يُنْطلق بي إلى أحد الصَّفين، فجاء سهم أوضربني رجل بسيف؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك".
7. وقال أبو بكرة رضي الله عنه رداً على من ظن أنه سيقاتل أحداً من المسلمين ولو دخل عليه داره: "لو دخلوا عليَّ داري ما رفعتُ عليهم قصبة، لأني لا أرى قتال المسلمين، فكيف أقاتلهم بسلاح؟".
يجب على المسلمين عامة، وعلى ولاة الأمر خاصة من العلماء والحكام، عند نزول الفتن بين المسلمين السعي الحثيث للإصلاح بين المتقاتلين، وعدم تأجيج نار القتال، امتثالاً لأمر ربهم: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين".13
وعملاً بنصيحة رسولهم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصرُه إن كان مظلوماً، أرأيتَ إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجزه – أوتمنعه- من الظلم فإن ذلك نصره".14
والعمل على تحكيم الشرع والعقل، وعدم الخضوع لأعداء الدين المتظاهرين بنصرة المظلومين، الصائدين في الماء العكر، إذ هدفهم تحقيق مآربهم، وتفكيك وحدة المسلمين، والطعن في الأخوة الإيمانية، وإحياء النعرات العرقية والعنصرية.
قال الإمام الطبري رحمه الله معلقاً على الأحاديث التي وردت في الفتن، وتنهى وتحذر عن قتال المسلم، وتأمر بحرمة دم المسلم وماله وعرضه:
(اختلف السلف، فحمل ذلك بعضهم:
1. على العموم، وهم من قعد عن الدخـول في القتال بين المسلمين مطلقاً، كسعد، وابن عمر، ومحمد بن مَسْلمة، وأبي بكرة في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها.
ثم اختلف هؤلاء:
أ. فقالت طائفة بلزوم البيوت.
ب. وقالت طائفة بالتحول عن بلد الفتن أصلاً.
ثم اختلفوا:
أ. فمنهم من قال: إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قُتِل.
ب. ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وعن ماله، وعن أهله، وهو معذور إن قَتَلَ أوقُتِل.
2. وقال آخرون: إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها، ونصبت الحرب، وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور.
3. وفصَّل آخرون، فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة، فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب وغيره على ذلك، وهو قول الأوزاعي.
قال الطبري: والصواب أن يقال: إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها.
4. وذهب آخرون إلى أن الأحاديث في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك.
5. وقيل: إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان، حيث يحصل التحقق إنما هي في طلب الملك، وقد وقع في حديث ابن مسعود الذي أشرتُ إليه: "قلت: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: أيام الهَرْج؛ قلت: ومتى؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه").15
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على تلك الأحاديث: (وفيها التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتن ما ينشأ عن الاختلاف في طلب المُلك، حيث لا يُعلم المحق من المبطل).16
على المسؤولين من الحكام وقادة وزعماء هذه الفئات المتقاتلة المتنافرة أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم أولاً، وفي إسلامهم ثانياً، وفي أهلهيهم ثالثاً، وفي غيرهم من المسلمين رابعاً، وليعلموا أنه لن تزول قدما أحد منهم عن الصراط حتى يسأل عن كل دم أريق، وكل عرض انتهك، وعن كل حق اغتصب، وعن كل زرع أحرق، وبهيمة نهبت، وعن عدم الاستقرار والاطمئنان الذي أصاب تلك البقعة الآمنة من بلاد المسلمين، وأولئك السكان الأبرياء من إخواننا المسلمين، وعن فتح المجال لتدخل المنظمات الكنسية الحاقدة على الإسلام والمسلمين بحجة تقديم العون، والغذاء، والدواء للنازحين، وهم في الحقيقة يزرعون الحقد، ويشيعون البغضاء بين إخوة العقيدة، ويؤججون الفتنة، ويحملون معهم الأسلحة فهم مفسدون في الأرض، محاربون لله ولرسوله.
واعلم أخي الحبيب أن وحدة الأمة الحقيقية في إسلامها وسلامة عقيدتها، ليس في أعراقها ولا قبائلها وأجناسها، فكل الخلق من آدم، وآدم من تراب.
لقد امتن الله عز وجل على الأوس والخزرج الذين كادت الحروب الأهلية أن تبيدهم وتفنيهم بعد دخولهم في الإسلام، واعتصامهم بحبله المتين: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها".17
فالعاقل من اتعظ بغيره، والجاهل من اتعظ بنفسه.
لا ينبغي لمن كانت له كلمة من أهالي تلك المنطقة أوغيرهم أن يقف متفرجاً، وليعلم أن الشر يعم والخير يخص، وليتق الجميع فتنة لا تبقي ولا تذر: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة".18
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم أسباب الفرقة والخصام، ويعينهم على التمسك والتخلق بأخلاق الإسلام، والانصياع لنصيحة خير الأنام، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وعلى آله وأصحابه الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لم يتضح لي مغزى تركيز الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته العظيمة الفريدة في حجة الوداع على تعظيم حرمة المسلم وماله وعرضه على إخوانه المسلمين من أول وهلة، وتحذيره من قتل المسلم لأخيه المسلم وعن القتال في الفتنة وتحت الرايات العمية، إلا بعد الاطلاع على المآسي العظيمة والكوارث الجسيمة التي لحقت بالإسلام والمسلمين في الماضي، وإلا بعد شهود التحارب والتدابر الذي دار في هذا العصر في بعض ديار الإسلام، في أفغانستان، والصومال، وفي ثالثة الأثافي فتنة دارفور التي نكتوي بنارها هذه الأيام، حيث يقاتل المسلم أخاه المسلم، وينال من ماله وعرضه، ويحاول استئصاله والقضاء عليه ما وجد إلى ذلك سبيلاً، مستعيناً في ذلك بالكفار والمفسدين من أعداء الملة والدين، غير ملتفت ولا مستمع لما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وغير مكترث لمغبة ونتائج هذا التحارب والتدابر، نحو:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".1
2. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".2
لقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الكفر على هذا الفعل لشناعته وقبحه، ومبالغة في التحذير منه، لينزجر السامع عن الإقدام عليه.
3. وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس3 فقال: "أتدرون أيُّ يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: أي بلد هذا؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قلنا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهدُ الغائبَ، فإنه ربَّ مبلغ يبلغه من هو أوعى له، فكان كذلك. قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".4
4. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار"، قيل: فهذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه".5
5. وقال عبد الله بن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".6
عندما وقعت الفتنة في عهد الصحابة رضي الله عنهم بين علي وعائشة، وطلحة، والزبير، ومن معهم من ناحية، وبين علي ومعاوية من ناحية أخرى، لم يزد عدد الذين شاركوا فيها على الأربعين من الصحابة، من جملة عشرة آلاف، وحتى أولئك الأربعين لم يبادر أحد منهم بالقتال، ولكن دعاة الفتنة ومؤججي الحرب بين هذه الطوائف هم الذين أشعلوا نار القتال وتولوا كبرها، وكان المشاركون من الصحابة رضوان الله عليهم متأولين، ولم يكن علي ولا غيره منشرحاً لقتال أهل الجمل وصفين كانشراحه لقتال أهل الأهواء في النهروان، بل قال مبشراً قاتل الزبير: "بشِّر قاتل ابن صفية بالنار".
وكان الصحابة رضوان الله عليهم ساعة القتال وبعده موالين لإخوانهم المسلمين، فكان يصلي بعضهم على قتلى بعض، ويترحَّمون عليهم، وقد استقبل علي رضي الله عنه عائشة بعد الجمل أجمل استقبال، وأكرمها أيما إكرام، وأخرج الحسن والحسين مشيعين لها من الكوفة، وأخرجها في عدد من النساء إلى المدينة.
لقد حذر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتن، ونهى عنه أشد النهي، ونهى عن ذلك أصحابه والسلف الصالح، ومما جاء في ذلك ما يأتي:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ ومعاذاً فليعذ به".7
2. وعن أبي بكرة رضي الله عنه عند مسلم: "فإذا نزلت8 فمن كان له إبل فليحلق بإبله – وذكر الغنم والأرض؛ قال رجل: يا رسول الله، أرأيتَ من لم يكن له؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينجو إن استطاع".
3. وعن ابن مسعود رضي الله عنه في الفتنة: "قلتُ: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركتُ ذلك؟ قال: كفَّ يدك ولسانك، وادخل دارك؛ قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن دخل رجل عليَّ بيتي؟ قال: فادخل مسجدك – وقبض بيمينه على الكوع – وقل: ربِّي الله، حتى تموت على ذلك".9
4. وعن جندب رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني عند نزول الفتنة: "ادخلوا بيوتكم، وأخملوا ذكركم؛ قال: أرأيتَ إن دُخِل على أحدنا بيته؟ قال: ليمسك بيده، وليكن عبد الله المقتول لا القاتل".10
5. وعن خرشة بن الحُرِّ يرفعه: "فمن أتت عليه فليمش بسيفه إلى صفاة11 فليضربه بها حتى ينكسر، ثم ليضطجع لها حتى تنجلي".12
6. وعن أبي بكرة عند مسلم: "قال رجل: يا رسول الله، إن أكرهتُ حتى يُنْطلق بي إلى أحد الصَّفين، فجاء سهم أوضربني رجل بسيف؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك".
7. وقال أبو بكرة رضي الله عنه رداً على من ظن أنه سيقاتل أحداً من المسلمين ولو دخل عليه داره: "لو دخلوا عليَّ داري ما رفعتُ عليهم قصبة، لأني لا أرى قتال المسلمين، فكيف أقاتلهم بسلاح؟".
يجب على المسلمين عامة، وعلى ولاة الأمر خاصة من العلماء والحكام، عند نزول الفتن بين المسلمين السعي الحثيث للإصلاح بين المتقاتلين، وعدم تأجيج نار القتال، امتثالاً لأمر ربهم: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين".13
وعملاً بنصيحة رسولهم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصرُه إن كان مظلوماً، أرأيتَ إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجزه – أوتمنعه- من الظلم فإن ذلك نصره".14
والعمل على تحكيم الشرع والعقل، وعدم الخضوع لأعداء الدين المتظاهرين بنصرة المظلومين، الصائدين في الماء العكر، إذ هدفهم تحقيق مآربهم، وتفكيك وحدة المسلمين، والطعن في الأخوة الإيمانية، وإحياء النعرات العرقية والعنصرية.
قال الإمام الطبري رحمه الله معلقاً على الأحاديث التي وردت في الفتن، وتنهى وتحذر عن قتال المسلم، وتأمر بحرمة دم المسلم وماله وعرضه:
(اختلف السلف، فحمل ذلك بعضهم:
1. على العموم، وهم من قعد عن الدخـول في القتال بين المسلمين مطلقاً، كسعد، وابن عمر، ومحمد بن مَسْلمة، وأبي بكرة في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها.
ثم اختلف هؤلاء:
أ. فقالت طائفة بلزوم البيوت.
ب. وقالت طائفة بالتحول عن بلد الفتن أصلاً.
ثم اختلفوا:
أ. فمنهم من قال: إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قُتِل.
ب. ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وعن ماله، وعن أهله، وهو معذور إن قَتَلَ أوقُتِل.
2. وقال آخرون: إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها، ونصبت الحرب، وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور.
3. وفصَّل آخرون، فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة، فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب وغيره على ذلك، وهو قول الأوزاعي.
قال الطبري: والصواب أن يقال: إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها.
4. وذهب آخرون إلى أن الأحاديث في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك.
5. وقيل: إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان، حيث يحصل التحقق إنما هي في طلب الملك، وقد وقع في حديث ابن مسعود الذي أشرتُ إليه: "قلت: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: أيام الهَرْج؛ قلت: ومتى؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه").15
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على تلك الأحاديث: (وفيها التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتن ما ينشأ عن الاختلاف في طلب المُلك، حيث لا يُعلم المحق من المبطل).16
على المسؤولين من الحكام وقادة وزعماء هذه الفئات المتقاتلة المتنافرة أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم أولاً، وفي إسلامهم ثانياً، وفي أهلهيهم ثالثاً، وفي غيرهم من المسلمين رابعاً، وليعلموا أنه لن تزول قدما أحد منهم عن الصراط حتى يسأل عن كل دم أريق، وكل عرض انتهك، وعن كل حق اغتصب، وعن كل زرع أحرق، وبهيمة نهبت، وعن عدم الاستقرار والاطمئنان الذي أصاب تلك البقعة الآمنة من بلاد المسلمين، وأولئك السكان الأبرياء من إخواننا المسلمين، وعن فتح المجال لتدخل المنظمات الكنسية الحاقدة على الإسلام والمسلمين بحجة تقديم العون، والغذاء، والدواء للنازحين، وهم في الحقيقة يزرعون الحقد، ويشيعون البغضاء بين إخوة العقيدة، ويؤججون الفتنة، ويحملون معهم الأسلحة فهم مفسدون في الأرض، محاربون لله ولرسوله.
واعلم أخي الحبيب أن وحدة الأمة الحقيقية في إسلامها وسلامة عقيدتها، ليس في أعراقها ولا قبائلها وأجناسها، فكل الخلق من آدم، وآدم من تراب.
لقد امتن الله عز وجل على الأوس والخزرج الذين كادت الحروب الأهلية أن تبيدهم وتفنيهم بعد دخولهم في الإسلام، واعتصامهم بحبله المتين: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها".17
فالعاقل من اتعظ بغيره، والجاهل من اتعظ بنفسه.
لا ينبغي لمن كانت له كلمة من أهالي تلك المنطقة أوغيرهم أن يقف متفرجاً، وليعلم أن الشر يعم والخير يخص، وليتق الجميع فتنة لا تبقي ولا تذر: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة".18
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم أسباب الفرقة والخصام، ويعينهم على التمسك والتخلق بأخلاق الإسلام، والانصياع لنصيحة خير الأنام، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وعلى آله وأصحابه الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.